الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، وهو علامة الخير؛ قال صلى الله عليه وسلم: من يرد اللهُ به خيرا، يُفَقِّهْهُ في الدين. متفق عليه؛ وذلك لأن التفقه في الدين يحصل به العلم النافع الذي يقوم عليه العمل الصالح. والعلم في الإسلام يسبق العمل

المزيد
آخر الأخبار

{تأملات في اسم الله الرزاق }

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدهِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد :فإنّ الإيمان بأسماء الله وصفاته أحد أنواع التوحيد التي لا يتم إيمان عبدٍ إلا بها وللتعبدِ بالأسماء والصفات آثاراً كثيرة على قلب العبد وعمله، قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "اعلم أن معرفة الذات والصفات مثمرة لجميع الخيرات العاجلة والآجلة، ومعرفة كل صفة من الصفات تثمر حالاً عَلِيَّة، وأقوالاً سنية، وأفعالاً رضية، ومراتبَ دنيوية، ودرجاتٍ أخروية، فمَثَلُ معرفةِ الذات والصفات كشجرةٍ طيبةٍ أصلها -وهو معرفة الذات- ثابت بالحجة والبرهان، وفرعها وهو معرفة الصفات في السماء مجداً وشرفاً (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) من الأحوال والأقوال والأعمال (بِإِذْنِ رَبِّهَا) [إبراهيم:25] وهو خالقها إذ لا يحصل شيءٌ من ثمارها إلا بإذنه وتوفيقه، مَنْبَتُ هذه الشجرة القلب الذي إن صَلُح بالمعرفة والأحوال صلُح الجسدُ كلُه. اهـ.

ولعلي أقتصر في الحديث عن اسم من أسماء الله تعالى للإيمان به أثرٌ كبيرٌ على استقرار النفوس ورضاها خصوصاً في زمن أجلب به المغردون بتغريداتهم، والمحللون بتحليلاتهم وتوقعاتهم عن أحوال الأمة الاقتصادية وكأنهم منذر جيش يقول: صبّحكم أو مسّاكم.. لن آتي اليوم بتحليل اقتصادي لم يأتِ به الأوالُ، لكنني سأنقلكم معي لنعيش معاً دقائقَ في ظلالِ لاسم الله تعالى الرزَّاق نتأمل معانيه ونستجلي بعض ما فيه...

إنّ اسمُ الله الرزَّاق مبالغة من اسم الفاعل الرازق والفعل منه رزق يرزق، والاسم منه الرزق، وهو العطاء المتجدد الذي يأخذه صاحبه في كل تقدير يومي أو سنوي أو عمري.. والرزَّاق هو الذي يتولى تنفيذ الأرزاق لحظة بلحظ فهو كثير الإنفاق.. والرزاق مبالغة في قسمة الأرزاق، رزق الخلائق عليه فليس لهم اعتماد في الرزق إلا عليه، ضمن رزقهم وسيؤديه كما وعد..

والرزَّاق اسم من أسماء الله الحسنى يدل على أنه الرزَّاق لجميع المخلوقات، فما من موجود في العالم العلوي والعالم السفلي إلا متمتع برزقه مغمور بكرمه، ورزقه نوعان: الأول رزق القلوب بالعلوم النافعة والإيمانِ الصحيح، والعلمِ بالحقائق النافعة والعقائدِ الصائبة، ثم التخلقِ بالأخلاق الجميلة، والتنزهِ عن الأخلاق الرذيلة.

والنوع الثاني: إيصال الباري جميع الأقوات التي تتغذي بها المخلوقات برها وفاجرها المكلفون وغيرهم.

فهو الرزَّاق الخلاق وهو على كل شيء قدير: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الشورى:12].

والرزق الحلال والقناعة بما أعطى الله منه هو الذي مدحته النصوص النبوية، واشتملت عليه الأدعية النافعة.

ورزقُه سبحانه لا يخص به مؤمنًا دون كافر.. ويسوقه إلى الضعيف الذي لا حيلة له، كما يسوقه إلى الجلد القوي، قال تعالى: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء:20], وخزائنه ملئ لا تنفد قَالَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يرَوَيه عَنِ رَبِهِ تَبَارَكَ وَتعالي: "يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَ إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ". (رواه مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عَنِه).

وقبله قال الله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل:96]. ورزقه سبحانه ليس له عدٌّ ولا حساب (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [البقرة:212].

ورزق العبد مضمون منه تعالى ولم يكتفِ بالضمان فأقسم سبحانه على ذلك فقال: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات:22،23].

ولا ينقطعُ عنه الرزق حتى تنقطعَ أنفاسُه قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "لَو أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ، لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ" (البيهقي وحسنه الألباني عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ).

عباد الله : لا تبتأسوا فقد تكفل سبحانه بأرزاق الخلائق جميعًا وأنزل ذلك قرآناً يُتلى فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت:60]. أي: الباري تبارك وتعالى، قد تكفَّل بأرزاق الخلائق كلِهم، قويهم وعاجزهم، فكم (مِنْ دَابَّةٍ) في الأرض، ضعيفة القوى، ضعيفة العقل (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ولا تدخره، بل لم تزل، لا شيء معها من الرزق، ولا يزال اللّه تعالى يسخر لها الرزق، في كل وقت بوقته.. (اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) فكلكم عيال اللّه، القائم برزقكم، كما قام بخلقكم وتدبيركم، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فلا يخفى عليه خافية، ولا تهلك دابة من عدم الرزق بسبب أنها خافية عليه..

وقد وصفه -صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ- بأنه تعالى الرَّزَّاق، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ, الْبَاسِطُ, الرَّزَّاقُ" رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- وصححه الألباني.

وهو الذي يعافي ويرزق قَالَ: -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ" (رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه).

عباد الله : إذا أعوزكم الرزق، فلا تطلبوه بكثرة الحرص، فلن يزيد الحرصُ والشحُّ العبدَ في رزقه المقدّر فوق ما قسمه الله له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ" أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني.

ومن جميل الرزق: أن يُغني الله عبدَه بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، وهذا ما علّمه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته أن يحرصوا عليه، فعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: "إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ مُكَاتَبَتِي فَأَعِنِّي، قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيْرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ [وهو جبَل لِطَيِّيءٍ] قَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ" (رواه الترمذي وصححه الألباني).

وأعظم رزق يرزقه الله عباده، وأحسنه وأكمله، وأعلاه وأدومه، أن يرزقهم الجنة بفضله ومنّه، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) [ص:54] وذلك الرزق خص الله به المؤمنين دون غيرهم، فقال: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) [الطلاق:11].

قد يقول قائل كيف ندعو الله باسمه الرزاق دعاء مسألة ودعاء عبادة.؟ نقول: دعاء المسألة ندعوه كدعاء أبينا إبراهيم عليه السلام الذي قال الله عنه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة:126]، وقال: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37] وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَلْيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ مُكْرِهَ لَهُ".

أما دعاء العبادة، فثقة العبد بالله أن الرزق الذي كتبه الله له سيصله حيث كان وإنما كان السعي لوقوع الأحكام على المحكوم، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِى الإيمان إِلاَّ مَنْ أَحَبَّ" (رواه أحمد وصححه الألباني).

فالعبد يثق في الرزق وينفق ولا يخف من ذي العرش إقلالا.. ألا ترى الطير لا تملك خزائن لقوتها، وليس لها من الرزق إلا ما قدره الله بسعيها، قَالَ رَسُولُ اللهِ يَقُولُ: "لوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلتُمْ عَلى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلهِ، لرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً، وَتَرُوحُ بِطَاناً". لكن!!

النَّفْسُ تَطْمَعُ في الدَّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ *** أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيْهَا

وَاللهِ لَو قَنِعَتْ نَفْسِي بِمَا رُزِقَتْ *** مِنَ المَعِيْشَةِ إِلا كَانَ يَكْفِيْهَا

وَاللهُ واللهِ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ *** ثَلاثَةٌ عَنْ يَمِيْنٍ بَعْدَ ثَانِيْهَا

لَوْ أَنْ في صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ *** في البَحْر رَاسِيَةٌ مِلْسٌ نَوَاحِيْهَا

رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ *** حَتَّى تُؤدِيْ إِلَيْهِ كُلُّ مَا فِيْهَا

أَوْ كَانَ فَوْقَ طِباقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا *** لَسَهَّلَ اللهُ في الـمَرْقَى مَرَاقِيْهَا

حَتَّى يَنَال الذِي في اللَّوحِ خُطَّ لَهُ *** فَإِنْ أَتَتْهُ وإِلا سَوْفَ يَأْتِيْهَا

فحسن التوحيد ، يا عباد الله : في اسم الله الرزاق يجعل العبد على يقين أن الرزق سيأتيه، وقد أخبر اللّه تعالى أنه هو الرزاق، كما أنه الخالق المحيي المميت، وقد قرن سبحانه بين هذه الأربع في موضع واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة، فقال تعالى: (اللّه الذي خَلقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ) [الروم:4] فكما أن الله هو وحده الخالق المحي المميت، فكذلك هو وحده الرزاق..

الكلمة الشهرية
بشرى لأهل الإستقامة

أقرأ المزيد
القائمة البريدية